طالبان عاشوراء وكربلاء
خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر بتاريخ 15 غشت من عام 2021 م، حصلت ثلاثة أمور تهز العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، بل العالم، وهي الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وسقوط كابول في قبضة طالبان. ويترافق هذا مع اليوم العجيب المزدوج في ذكرى فرح وحزن من عاشوراء وكربلاء. هناك من هلل واعتبر أن أمريكا انتهت من التاريخ، كما جاء في مقالة للكاتب الفلسطيني منير شفيق، حسبما وصلتني. وهناك الكاتب من تونس، أبو يعرب المرزوقي، الذي اعتبر أن هذا الحدث هو ولادة القطب الجديد في العالم. مقابل من أرسل إلي يقول إن صورا مرعبة قادمة من كابول لأناس يتعلقون بطائرة تقلع فرارا من أرض طالبان، ليسقطوا محلقين من السماء كما في الطيور المحلقة، ولكن إلى الهلاك. لقد عصرت ذهني في الموضوع، وأتذكر جيدا مقابلتي في قناة «اقرأ» وأنا أتحدث عن تدمير تماثيل بوذا على يد حركة طالبان، قبل أن تقصفها أمريكا في تورا بورا. لقد كتبت كتابا كاملا عن الدرس الأفغاني، لمن يريد التعمق في قراءة الظاهرة.
وأعود إلى اليوم العجيب في التاريخ: 10 من محرم فهو يصدف أمرين؛ الأول في المدينة المنورة حين قدمها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ فسأل من حوله: ما بال اليهود اليوم يحتفلون ويفرحون؟ قالوا: إنه يوم خروج بني إسرائيل من نير العبودية إلى فضاء الحرية! عقب رسول الرحمة (ص) على الحدث: نحن أولى به فلنصم لذكرى هذا اليوم.
في التاريخ نفسه وفي 10 محرم بعد ستين عاما، تم قتل حفيد الرسول (ص)، في معركة كربلاء عام 680 ميلادية، في كارثة ندفع ثمنها حتى اليوم، كما في كارثة عبد الناصر في معركة الخامس من يونيو 1967م، التي يدفع العرب ثمنها حتى اليوم. وهكذا تفعل الأخطاء التاريخية.
أما عاشوراء الأولى فهي مصدر فرح كبير للانعتاق من نير العبودية إلى الصحراء والحرية والشمس، وهي قصة مروية بعناية ودقة في سورة «الأعراف».
وأما كارثة الحسين عليه السلام فهي مصيبة لأي مسلم؛ فلا يجوز قتل مؤمن عمدا بأي صورة من الصور؛ فكيف بحفيد مؤسس الإسلام، وهو إن دل على شيء فهو العقلية الجاهلية القبلية تنبعث مجددا، ولعله الانتقام المتأخر لمقتل سادة قريش في معركة بدر (عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، كما فعلت هند بنت عتبة فلاكت كبد حمزة قاتل أبيها)، وهو انقلاب كامل عن قيم الإسلام الجوهرية. علينا إذن في محرم أن نحيي فرحة الحرية، ونبكي لمصرع الحسين.
ولكن كل المشكلة هي أن القصة الأولى غيبت من الثقافة، والثانية لم تنته؛ بل ما زلنا ندفع ديونها مع الفوائد المركبة، وتوظف في دهاليز وظلمات الغرف السرية للسياسيين والإيديولوجيين؛ ويعاد شحنها فتحرض مشاعر الكراهية والانتقام، وضرب الذات جلدا بالسواطير والسيوف حتى يسيل الدم، ومعه انبعاث روح الثأر ولمن؟ ولا يرضى الحسين عن ذلك قطعا.
لقد أصبحت طقوسا مريعة بتعذيب النفس حتى يسيل الدم من الطرفين، تحت شعار «يا لثارات الحسين»، فيقتل الأطفال السوريون في غوطة دمشق وفي الموصل تحت دعوى أنهم أولاد يزيد، والحسين قد أصبح في ذمة التاريخ تحت قوله تعالى: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون».
وحين كانت الحرب الضروس لمدة ثماني سنوات عجاف بين العراق وإيران، كان كل فريق يوظف الإيديولوجيا لخدمة حربه، فكان الإيرانيون يسمونها كربلاء وليست مرة واحدة، وفي كربلاء 5 قتل 65000 ألفا من الطرفين، منهم 40000 من الإيرانيين و25000 من العراقيين من الشباب، ما يعادل سكان مدينة كاملة.
كان صدام يوظف النص الديني في تدمير الأكراد تحت مسمى (سورة «الأنفال») من القرآن وضد الفرس باستعارة معركة «القادسية»، والله لا علاقة له بكل هذا السخف، والتاريخ يتفرج ضاحكا على الطرفين في معارك كربلاء والقادسية!
إنها الحرب والحرب تعني الثلاثي: «الجنون» و«الإفلاس الأخلاقي» و«الجريمة» مجللة بالعار «ثلاثي الحرب والاقتتال»؛ فيقتل المسلم المسلم، والله يقول: «ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه (أربعا) جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذابا عظيما».
ومعنى هذا أننا متوقفون في مربع الزمن، وأن العقل مخطوف مرتهن في قبضة الإيديولوجيا، إلى حين ولادة العقل المحرر من عقدة التاريخ.
وفي الواقع فإن تيار التشيع الذي غذي برافد خطير بعد مصرع الحسين يجب تفكيك أصوله، وهذا يعود إلى معركة صفين حين ولد تيار التشيع، كما شرحها بدقة موضوعية ابن خلدون قديما في مقدمته، فيمكن مراجعتها بالتفصيل «مذاهب الشيعة».
يرى مالك بن نبي أن معركة «صفين» لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة، حقق فيها طرف انتصارا على طرف، أو بالعكس، بل كانت «انعطافا» في مسيرة الحضارة الإسلامية، و«انقلابا» لسلم القيم.
وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب، فلم يعد (رشد) بعد الحكم الراشدي، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لا ينتهي من قنص السلطة الدموي؛ ففقد العالم الإسلامي الرشد، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي، وتحول إلى مذهب الغدر والانقلابات العسكرية.
يؤرخ المؤرخ الأمريكي بول كينيدي في كتابيه «صعود وسقوط القوى العظمى» و«التحضير للقرن الحادي والعشرين» لـ«المعجزة الأوروبية»، التي أمسكت بمقود التاريخ في مدى القرون الفارطة؛ ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض، كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات (الدراويش) وقصص ألف ليلة وليلة والسندباد البحري، فإذا قيل للسلطان العثماني: «إن شيئا جديدا يدب في الغرب، فهل لك في الزيارة والتعرف على ما يحدث؟»، كان يجيب: «سلطان المسلمين لا يدخل بلاد الكفار إلا فاتحا!».
يروى أن شيعيا وسنيا في السويد تخاصما وتضاربا وتلاعنا، فأحضرا إلى القاضي فسألهما عن سبب الاقتتال؟ قال الأول: «شتم معاوية!»، قال الثاني: «شتم عليا والحسين!»، قال القاضي: «احضروا الحسين ومعاوية وعلي». ولما علم القاضي أن معاوية والحسين وعليا عاشوا قبل أكثر من ألف عام، أمر بسوق المتخاصمين إلى أقرب مصحة عقلية للعلاج.